قال تعالى:
{ انا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر * ونبّئهم أن الماء قسمة
بينهم, كلّ شرب محتضر * فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر * فكيف كان عذابي ونذر *
انّا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتضر} القمر 27-31.
1. المعجزة:
ان الله سبحانه وتعالى عندما يؤيد رسله وأنبياءه بالمعجزات فانه لا يتحدى
بها فردا واحدا, ولكنه يتحدى أمة بأكملها, انه يطلب منهم أن يستعين بعضهم
ببعض ان استطاعوا, ولن يستطيعوا.
وحتى لا يقول الكفار: لقد جاء نبي يدعو الرسالة بشيء لم نتقنه ونبغ فيه,
ولو تعلمناه لجئنا بمثل هذه المعجزة, جاءهم بشيء تعلموه بل ونبغوا فيه
واشتهروا بفعله, ثم بعد ذلك تحداهم به, لكنهم يعجزون!!
ومعنى التحدي هو اثارة حماس القوى المعارضة لتفعل والقوى المعارضة هي الكفار, أو غير المؤمنين.
لقد تحدّاهم علنا, لتهيج نفوسهم أمام الناس, ويحاولوا قدر طاقاتهم أن
يأتوا بمثل المعجزة ويحشدوا لها طاقاتهم, بل ويجنّدوا لها للرد عليها,
ولكنهم مع كل ذلك, ورغم كل ذلك يعجزون.
واذا كان
صالح عليه السلام قد احتاج من الله عز وجلّ معجزة, كي يعزز دعوته ورسالته بالحجة التي لا ترد فاننا يجب أن نعرف معنى المعجزة وما هي المعجزة؟
(ومعنى المعجزة أن يأتي الله سبحانه وتعالى على يد رسول من البشر بأمر
خارق ليثبت بها صدق بلاغ هذا الرسول عن الله عز وجل, فكان الرسول يقول: أنا
لم أعرف بينكم بما نبغتم فيه, ولكني أتيت بشيء لا تقدرون عليه. وأنا
أتحداكم أن تجتمعوا جميعا وتستعينوا بعضكم ببعض.. ولن تقدروا على الاتيان
بهذ المعجزة. وهذ دليل صدقي في التبليغ عن الله.. ان أعوزكم الدليل, وكنتم
في شك مما أقول).
معجزات الرسول صلى الله
عليه وسلم للشيخ محمد متولي الشعراوي.
نعود الى
صالح عليه السلام الذي أرسله الله تعالى الى قوم ثمود, وثمود قبيلة كبيرة كانت تعبد الأصنام, فأرسل الله
سيدنا صالحا اليهم, وقال
صالح لقومه:
{ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره}.هود61.
قال لهم
صالح نفس الكلمة التي يقولها كل نبي لقومه, هي هي لا تتغيّر ولا تتبدّل {اعبدوا الله ما لكم من اله غيره}, وكانت دعوة
صالح عليه السلام مفاجأة لهم, لأنه يتهم آلهتهم ويقول أنها بلا قيمة, وهو ينهاهم عن عبادتها
ويأمرهم بعبادة الله وحده, وأحدثت دعوته هزة كبيرة في مجتمعهم وكان
صالح معروفا بينهم بالحكمة والنقاء والخير, فكان يحظى باحترامهم جميعا قبل أن
يوحي الله اليه ويرسله بالدعوة اليهم. ولذلك فانهم توجهوا اليه بالحديث
فقالوا:
{ قالوا ياصالح قد كنت فينا مرجوّا قبل هذا, أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا واننا لفي شك مما تدعونا اليه مريب}. هود 62.
لقد استنكروا على
صالح أن يقول
هذا, وقالوا: هذا الرجل الذي كان لنا رجاء حسنا فيه لعلمه وعقله وصدقه وحسن
تدبيره, يصدر منه مثل هذا الكلام, أيعقل هذا؟ لقد خاب رجاؤنا فيك يا
صالح.. أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ وظلوا يستنكرون ما هو حق وواجب,
ويدهشون أن يدعوهم أخوهم
صالح الى عبادة الله وحده.
لم تكن لديهم حجج ولا براهين في الرد على صالح, سوى هذا التفكير وهذه
الكلمات, فقط هم غاضبون ومندهشون لأن الآلهة التي يريد أن يبعدهم عنها
صالح كان آباؤهم وأجدادهم يعبدونها!!
حطم
صالح عليه السلام جدار الجهل الذي يستظلون به وحطم العادات المهلكة والتقاليد البالية التي سيطرت على عقولهم عن التفكير نهائيا فما ان أثار
صالح عليه السلام حركة هذه العقول لتفكر, وتتدبر أمرا بّينا واضحا, ما ان فعل هذا حتى
استشاط غضبهم, واختلطت الحيرة بالغضب واليأس والطيش, فصاروا لا يدركون ما
يقولون, لأنهم أمام خيارين اما تتفتح عقولهم وتقبل ما يقوله
صالح عليه السلام أو يتركوا هذه العقول تتحجر وتقف عند أفكار السابقين وخرافاتهم, وأوهام
العادات والتقاليد المستقرّة في رؤوسهم حتى أنه تمكّنت لدرجة الجهل المطبق.
وكانت دعوة
صالح لهم واضحة وضوح
الشمس, فهي دعوة التوحيد في صميمها, وهي اعلان مباشر بحرية العقل وحرية
التفكير وحرية الاختيار فهذه الحجج بين أيديهم الله واحد, خالق كل شيء, لا
شريك له وهو النافع وهو الرازق وهو الرحيم_ أمام حجر لا ينفع ولا يضر من
صنع من يعبدونه, وهو من خلق الله سبحانه عز وجلّ.
وقد ساق
صالح عليه السلام حججا يعيشونها فقال لهم:{ اعبدوا الله ما لكم من اله غيره}.
ثم ذكرهم بالنعم فقال: { واذكروا اذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا}.
وذكّرهم بنعم الله فقال:{فاذكروا ءالاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}.
أي انما جعلكم الله خلفاء من بعد قوم عاد لتعتبروا بما كان من أمرهم,
وتعملوا بخلاف ما عملوا, وأباح لكم الأرض تبنون من سهولها قصورا, وتنحتون
من الجبال بيوتا فارهين أي متميّزين وحاذقين في صنعها واتقانها واحكامها,
فقابلوا نعمة الله بالشكر والعمل الصالح, والعبادة له وحده لا شريك له,
وايّاكم ومخالفته والعدول عن طاعته, فان عاقبة ذلك وخيمة. قصص الأنبياء
لابن كثير 100-102.
ولهذا وعظهم
صالح بقوله:{ أتتركون في ما ههنا آمنين* في جنّات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم}.
أي متراكم كثير حسن بهيّ ناضج.
ولما عارضوه وقالوا: انك كنت فينا عاقلا وحكيما الى آخر هذه الحجج الضعيفة التي يردون هم عليها دون أن يشعرون, لما قالوا ذلك تلطف
صالح في رده عليهم وألان لهم الجانب, فقال لهم:{ يا قوم أرأيتم ان كنت على
بيّنة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله ان عصيته فما تزيدوني غير
تخسير}.
قال لهم: فما ظنكم ان كان الأمر كما أقول لكم وأدعوكم اليه؟ ماذا يكون
عذركم عند الله؟ وماذا يخلصكم بين يديه وأنتم تطلبون مني أن أترك دعاءكم
الى طاعته؟ وأنا لا يمكنني هذا لأنه واجب عليّ لو تركته لما قدر أحد منكم
ولا من غيركم أن يجيرني منه ولا ينصرني, فأنا لا أزال أدعوكم الى الله وحده
لا شريك له, حتى يحكم الله بيني وبينكم. المصدر السابق.
ولكنهم بعد ذلك اتهموا
صالح بأن له سحرا, أو أنه مسحور لا يدري ما يقول في دعائه لهم الى افراد العبادة لله وحده, وترك ما سواه من الأصنام والأنداد.
ظلوا يقولون له هكذا ويعارضونه يمينا ويسارا وصالح
عليه السلام يدعو ليل نهار, ويأتي بالحجج من هنا والأخرى من هناك, لعلهم يرجعون عما هم فيه.
طلب منهم أن يستغفروا الله عسى الله أن يغفر لهم ذنوبهم, وطلب منهم أن
يتوبوا اليه, ويقلعوا عما هم فيه ويقبلوا على عبادته, فان فعلوا ذلك, فانه
عز وجل يقبل منهم ويتجاوز عنهم وقال لهم:{ انّ ربّي قريب مجيب}.
ولكن كل هذا دون جدوى, وأحس
صالح عليه السلام أن الأمر قد صعب تماما, وأن الأمور تسير الى الاتجاه الأسوأ فكلما دعا
هؤلاء تمرّدوا وتملّصوا وجادلوا في أمر من أمور جاهليّتهم في جدال لا ينقطع
ولا تنفع معه الحجة والوضوح لأن الطرف الآخر الذي هو شريك في هذا الحوار
طمس الله على عقولهم, ولم يعودوا يتفكّرون في أمر أو يتدبّرون شيئا أبدا
كان لا بد لهم من معجزة تعجزهم وتخرس ألسنتهم, تكون خارقة فلا تتحرّك
ألسنتهم بجدل أبدا, وجاء الحل على لسانهم فقالوا لصالح
عليه السلام:
{فأت بآية ان كنت من الصادقين}.
طلبوا منه أن يأتيهم بخارق يدلّ على صدق ما جاءهم به.
2. الناقة المعجزة
وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوما في ناديهم, فجاءهم رسول الله
صالح فدعاهم الى الله, وذكّرهم وحذرهم ووعظهم وأمرهم, فقالوا له: ان أنت أخرجت
لنا من هذه الصخرة, وأشاروا الى صخرة هناك_ ان أنت أخرجت لنا منها ناقة_ من
صفاتها كذا وكذا وذكروا أوصافا فأسموها ونعتوها وتفننوا فيها, وأن تكون
عشراء طويلة.( قصص الأنبياء لابن كثير).
فقال لهم
صالح عليه السلام وهو يعرفهم ويعرف طباعهم: أرايتم ان أجبتكم الى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم, أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقون ما أرسلت به؟
كان شرط
صالح عليه السلام واضحا لاجدال فيه, فهم يطلبون ناقة تخرج من صخرة أمامهم, عشراء طويلة, بكل
الأوصاف التي طلبوها, وهذ الأمر في حدود تفكير البشر مستحيل, وقد طلبوه
خصيصا لأنه مستحيل وظنوا أنهم بطلبهم المستحيل هذا يعجزون صالح.
هكذا وصلت حدود البشر ولا حدود لهم تتجاوز هذا الأمر.
أمّا
صالح عليه السلام فقد استوثق منهم العهد ووضع الشرط وهو على يقين دائم بأن الله سبحانه عز
وجل لن يخذله أبدا, ولم يتطرّق الى تفكيره أن ما يطلبونه مستحيل بل هو يسير
على الله عز وجل فليطلب من ربه المعجزة اليسيرة على الله سبحانه,
المستحيلة في ظنهم.
وانتظر القوم, وجهزوا سخريتهم عندما يعجز
صالح عن الاتيان بناقة تخرج من هذه الصخرة التي أشاروا اليها وهذا مستحيل في ظنّهم وعرفهم ويقينهم.
اتجه
صالح عليه السلام الى ربه, وقام الى مصلاه فصلى لله عز وجلّ ما قدّر له أن يصلي, واتجه في
خشوع وايمان الى ربه بالدعاء, فطلب من ربه أن يجيبهم الى ما طلبوا, فكان
منه الدعاء ومن الله الاستجابة.
استجاب الله عز وجل فأمر سبحانه جلّ شأنه تلك الصخرة التي أشاروا اليها
أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء على الوجه والشروط التي وضعوها, أو على الصفة
التي نعتوا.
كانت الناقة آية ومعجزة من
معجزات الله, لأن الآية هي المعجزة, ويقال أن الناقة كانت معجزة لأن صخرة في
الجبل انشقت يوما وخرجت منها الناقة وخرج وراءها وليدها الصغير, وولدت من
غير الطريق المعروف للولادة, ويقال أنها كانت معجزة لأنها تشرب المياه
الموجودة في الآبار في يوم فلا تقترب بقية الحيوانات من المياه في هذا
اليوم, وقيل انها كانت معجزة لأنها كانت تدر لبنا يكفي الناس جميعا في
اليوم الذي تشرب فيه الماء فلا يبغي الناس منه شبعا.
كانت هذه الناقة معجزة, ووصفها الله سبحانه وتعالى بقوله:{ ناقة الله}. هود 64.
لقد أضافها الله لنفسه سبحانه عز وجل بمعنى أنها ليست ناقة عادية وانما هي معجزة من الله.
نعود الى
صالح عليه السلام بعد أن بيّنا كيف كانت الناقة آية ومعجزة.
انفطرت الصخرة عن الناقة, وظهرت لهم مع وليدها. فلما عاينوها كذلك رأوا
أمرا عظيما, ومنظرا هائلا, وقدرة باهرة, ودليلا قاطعا, وبرهانا ساطعا فآمن
كثير منهم, واستمرّ أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم.
قال لهم
صالح عليه السلام: { ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب}.
وأصدر الله أمره الى
صالح أن
يأمر قومه بعدم المساس بالناقة أو ايذائها أو قتلها, أمرهم أن يتركوها تأكل
من أرض الله, وألا يمسوها بسوء, وحذرهم أنهم اذا مدّوا أيديهم بالأذى
للناقة فسوف يأخذهم عذاب قريب.
وقد أدهشت الناقة قوم ثمود في البداية, فقد كانت ناقة مباركة.. كان لبنها
يكفي آلاف الرجال والنساء والأطفال, وكانت اذا نامت في موضع هجرته كل
الحيوانات الأخرى, كان واضحا أنها ليست مجرّد ناقة عاديّة, وانما هي آية من
آيات الله.
وعاشت الناقة بينهم, فآمن منهم من آمن وبقي أغلبهم على الكفر والعناد.
وكان رئيس الذين آمنوا رجل يقال له: جندع بن عمرو بن محلاة وكان من رؤسائهم وأشرافهم. قصص الأنبياء لابن كثير.
وهمّ بقيّة الأشراف بالدخول في دين
صالح الا أن رجلا يقال له ذؤاب بن عمر ورجل آخر اسمه الحباب كان صاحب أصنامهم نهياهم عن ذلك.
ولما حذرهم
صالح عليه السلام من أن هذه ناقة الله فلا يمسوها بسوء أبدا, تحسّروا على أن تبقى بين
أظهرهم, ترعى حيث شاءت من أرضهم وترد الماء يوما بعد يوم, وكانت اذا وردت
الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك, فكانوا يرفعون حاجتهم من الماء في يومهم
المخصص لهم ليشربوها في اليوم التالي يوم الناقة, ويقال أنهم كانوا يشربون
من لبنها كفايتهم, ولهذا قال:{ لها شرب ولكم شرب يوم معلوم}.
وكانت الناقة فتنة لهم واختبارا عظيما لايمانهم ليرى ايؤمنون بها أم يكفرون؟ والله أعلم بما يفعلون.
وقد قال الله عز وجل لصالح:{ فارتقبهم} أي انتظر ما يكون من أمرهم { واصطبر} على أذاهم فسيأتيك الخبر على جليّة. وقال له عز وجل:
{ ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر}.
ورغم أنه كان واضحا أنهاليست مجرد ناقة عادية, وانما هي آية ومعجزة من
معجزات الله, رغم ذلك تحوّلت الكراهية عن
سيدنا صالح الى الناقة المباركة!! تركزت عليها الكراهية, وبدأت المؤامرة تنسج خيوطها
ضد الناقة.. كره الكافرون هذه الناقة العظيمة, وهذه الآية المعجزة, كرهوا
ناقة الله وآية الله العظيمة, ودبّروا في أنفسهم أمرا.
وقد كان طبيعيّا أن يجيء التدبير السيء من رؤساء القوم.
وقد ذكر المؤرخون وعلماء التفسير(الطبري في تاريخه): أن امرأتين من ثمود
اسم احداها "صدوقة" ابنة المحيا بن زهير المختار, وكانت ذات حسب ومال,
وكانت تحت رجل مسلم آمن بصالح ففارقته وتركته, فدعت ابن عم لها يقال له
"مصرع" بن مهرج بن المحيا, وعرضت
عليه نفسها ان هو عقر الناقة, واسم الأخرى "عنيزة" بنت غنيم بن مجلز, وتكنّى أم
غنمة أو أم عثمان وكانت عجوزا كافرة لها بنات من زوجها ذؤاب بن عمرو أحد
الرؤساء فعرضت بناتها الأربع على قدار بن سالف, ان هو عقر الناقة فله أي
بناتها شاء, أي واحدة منهن يرغبها.
فابتدر وانتدب هذان الشابان لعقرها وسعيا في قومهم بذلك, فاستجاب لهما سبعة آخرون فصاروا تسعة. وهم المذكورون في قوله تعالى:
{ وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون}.
وسعوا في بقيّة القبيلة قبيلة ثمود وحسّنوا لهم قتل الناقة وكان لهم مجلس كبير.
فلما سقط الليل على مدينة ثمود. وانتصبت الجبال شامخة تحتضن البيوت
المنحوتة فيها, وبدا واضحا للكافرين أن أحدا لا يمكن أن ينالهم بسوء.
وفي داخل أحد القصور أضيئت المشاعل, وجلس الكفار وقد دارت عليهم كؤوس
الشراب وهم شبه دائرة. كل رؤساء القوم حضروا هذه الجلسة الخطيرة. انعقدت
الجلسة ودار بينهم حوار طويل.
قال أحد الكافرين:{ أبشرا منّا واحدا نتبعه انا اذا لفي ضلال وسعر} القمر 24.
وقال آخر:{ أءلقي الذكر
عليه من بيننا بل هو كذاب أشر}. القمر 25.
وعادت الكؤوس تدور وانتقل الحوار من
صالح الى ناقة الله.
قال أحد الكافرين: اذا جاء الصيف جاءت الناقة الى ظل الوادي البارد فتهرب منه المواشي الى الحر.
وقال كافر آخر: واذا جاء الشتاء بحثت الناقة عن أدفأ مكان واستراحت فيه فتهرب مواشينا الى البرد وتتعرض للمرض.
وأصبح الجميع في سكر كامل وكؤوس الشراب تدور وهي تهتز في أيدي الشاربين,
وأمر أحد الجالسين أن تكف المغنية عن الغناء حتى يستطيع أن يفكّر.. وصمت
الجميع.
ثم قطع هذا الرجل السكّير صمت الحاضرين بقوله: ليس هناك غير حل واحد.
قالوا وما هو؟
قال: نقتل الناقة, ثم بعدها نقتل صالحا.
وبدأ الحاضرون في الحديث عن
صالح بقول السوء فقال أحدهم: كم نتشاءم منه ونتطيّر, ومن ناقته ومن كل الذين أمنوا معه.
انه حل واحد نقتل الناقة, ثم نثني عليه, طرح اسم القاتل, انه رجل جبار من
جبابرة المدينة, رجل يعبث في الأرض فسادا ولا يكف عن شرب الخمر والويل لمن
يعترضه وهو مخمور, وله أعوان يساعدونه على القتل. ويستطيعون أن يكونوا
أداة للجريمة ويختاروا مكان التنفيذ بأنفسهم.
3. ليلة المأساة
وجاءت ليلة الغدر, كانت الناقة المباركة تنام وهي تضم لصدرها طفلها الصغير
الذي استدفأ بها, واستعدّ المجرمون التسعة لجريمتهم وعلى رأسهم قدار بن
سالف. لعنه الله, وخرجوا من جوف الظلام وفي نفوسهم الخيانة, وكان زعيمهم
قدار بن سالف قد شرب كثيرا من الخمر, حتى لم يعد يرى ما أمامه وهجم الرجال
التسعة على الناقة فنهضت واقفة ونهض طفلها فزعا, وامتدت الأيدي القاتلة
اليها للقضاء عليها, وكان أوّل من سطا على الناقة هو قدار بن سالف, فعرقبها
أي ضربها في عرقوبها فسقطت على الأرض, ثم ابتدروها بأسيافهم يقطعونها فلما
رأى ذلك طفلها, شرد عنهم فعلا الى الجبل هناك ورغا ثلاث مرات.
ولما علم
صالح عليه السلام بما حدث خرج غاضبا على قومه, وقال لهم: ألم أحذركم أن تمسوا الناقة.
قالوا: قتلناها فائتنا بالعذاب واستعجله لنا ألم تقل لنا أنك من المرسلين؟
فقال لهم
صالح عليه السلام:{ تمتعوا في دياركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} هود 65, أي غير يومهم ذلك.
فلم يصدقوه أيضا في هذا الوعد الأكيد, بل انهم لما أمسوا هموا بقتله وأرادوا, فيما يزعمون أن يلحقوه بالناقة, فأقسموا أن يهجموا
عليه في داره فيقتلوه ولكن الله حمى نبيّه صالحا
عليه السلام منه ونجاه.
وقال الله عز وجل:{ قالوا تقاسموا بالله لنبيّتنّه وأهله ثم لنقولنّ لوليه ما شهدنا مهلك أهله وانّا لصادقون}. النمل 49.
وأصبحت ثمود اليوم الأوّل من أيّام النظرة الثلاثة _ التي أنظرهم بها
صالح_ ووجوههم مصفرّة, فلما أمسوا قالوا: ألا قد مضى يوم من الأجل ثم
أصبحوا في اليوم الثاني من أيّام التأجيل, ووجوههم محمرّة وفي الثالث من
أيّام المتاع اسودّت وجوههم. فلما أمسوا قالوا: ألا قد مضى الأجل. وليس
هناك شيء من العذاب.
وفي فجر اليوم الرابع انشقت السماء عن صيحة جبارة, انقضّت الصيحة على
الجبال فهلك فيها كل شيء حي, وارتجفت الأرض رجفة جبّارة فهلك فوقها كل شيء.
هلكوا جميعا في صرخة واحدة, أما الذين آمنوا بسيّدنا
صالح فكانوا قد غادروا المكان مع النبي
صالح عليه السلام ونجّاهم الله.
الحمد لله الذي قدم لنا الإسلام بتعب الأنبياء
وإنشاء الله كلنا نرى الأنبياء والرسل وخاصة الرسول صلى الله عليه وسلم.